في هذا المقال أشارك بعض الرؤى المستخلصة من سنوات خبرتي في مجال التدريب المؤسسي في ليبيا، آملًا أن تفيد هذه الرؤى كل من يرغب في تأسيس أو إدارة قسم تدريب ناجح داخل مؤسسته، أو لمن يريد إطلاق مشروع تدريبي جديد، سواء كان هدفه الابتكار ضمن التحديات الحالية أو فقط مجرد فهمها. يجدر الذكر هنا أن بعض هذه الرؤى والتحديات ليست خاصة بليبيا وحدها، بل هي مشتركة عالميًا.
يفشل التدريب المؤسسي عندما لا يكون التدخل الصحيح للمشكلة القائمة. في كثير من الأحيان، هناك مشكلة حقيقية في العمل تحتاج إلى حل، لكن العديد من المؤسسات تفترض أن تقديم دورة تدريبية سيجعل المشكلة تختفي، بينما في العديد من الحالات لا يكون الأمر متعلقًا بالمعرفة أو المهارات، بل بمشكلة نظامية أعمق مثل ضعف العمليات، أو القيادة غير الفعّالة، أو نقص الموارد، إلخ.
على سبيل المثال، عندما لا يتقبل الموظفون منظومة رقمية جديدة اشترتها الشركة، قد تفترض إدارة أن السبب هو نقص المعرفة أو المهارات لدى الموظفين لاستخدام المنظومة الجديدة. بينما تُظهر الأبحاث المنشورة حول تقبّل التكنولوجيا الجديدة أن الأسباب الجذرية قد تكون مختلفة: ربما لا يرى الموظفون أي فائدة من المنظومة الجديدة، أو يخشون تأثيرها سلبًا على طرائق عملهم، أو لم تتم استشارتهم أصلًا في عملية الشراء، ما أدى إلى عدم توافقها مع احتياجاتهم الحقيقية. في مثل هذه الحالة، يمكن للتدريب أن يكون حلًا مؤقتًا، مُسكّن، لكنه لا يستطيع معالجة جوهر المشكلة.
حتى الموظفون أنفسهم الذين يحضرون التدريب يتوقعون أحيانًا أن يحل التدريب مشاكل لا يستطيع حلها، فيدخلون قاعة التدريب، آملين أن يخفف من إحباطاتهم اليومية، وبدلًا من الانخراط في الأهداف التعليمية للدورة، تجدهم يوجّهون النقاشات نحو تحدياتهم الخاصة، باحثين عن حلول من المدرب، كما لو أن الأمر خدمة استشارية وليس برنامجًا تدريبيًا بأجندة محددة. قد يُعزى هذا إلى سوء فهمهم لهدف التدريب أو إلى ثقافة عامة تعتمد على الحلول السريعة. في كلتا الحالتين، سواء على المستوى المؤسسي أو الفردي، قد يُساء فهم هدف التدريب كحل لمشكلات لا يمكنه أن يعالجها من الأصل.
هذا لا يعني أن التدريب لا يمكن أن يكون حلًا قائمًا بذاته لبعض مشاكل العمل، لكنه -في رأيي- نادرًا ما يكون كافيًا وحده. أتذكر قصة مع مؤسسة حاولت معالجة استياء الموظفين الناتج عن وعود لم تتحقق فيما يخص تعديل الرواتب عبر تقديم خطة تعلم وتطوير طويلة المدى شملت تدريبات خارج البلاد. صحيح أن الخطة (أو ربما السفر؟) قد خفّفت مؤقتًا من حدة الأزمة، لكن مؤخرًا أخبرني أحد موظفيهم أنهم عادوا إلى نقطة الصفر مع معنويات أسوأ، ما يوضح أن التدريب لم يعالج المشكلة، بل لم يكن قادرًا على حلها من الأساس.
بشكل عام، تُفهم مشاكل الأعمال بشكل أفضل من خلال ممارسات تحليل الأعمال (Business Analysis)، التي تتيح تقديم تدخلات مناسبة. إذا كان التدريب هو التدخل الصحيح، تمام، وإن لم يكن هو التدخل الصحيح، فابحث عن حل آخر. وحتى عندما يكون التدريب حلًا مناسبًا، يجب أن تفهم المؤسسات أن هناك أنواعًا متعددة من برامج التعلم مثل التوجيه (Coaching)، والتدريب أثناء العمل (On-job training)، وغيرها، أي أنه ليس بالضرورة أن يكون التعلم دائمًا من خلال دورة تقليدية طويلة ومكلفة.
وللأسف، في بعض الأحيان، يكون التحدي أعمق من ذلك. فليس فقط أن التدريب ليس الحل الصحيح للمشكلة، بل أحيانًا لا تكون هناك مشكلة حقيقية أصلًا تدفع لطلب التدريب. يُطلب التدريب فقط لإنفاق ميزانية المشاريع أو الميزانية السنوية، أو لأن فرص السفر مرتبطة به، خصوصًا قرب نهاية السنة المالية، ما يعني أن المبادرة التدريبية غير مرتبطة بتأثير فعلي على العمل.
خلاصة القول، إن كنت تهتم بتقديم تجربة تعلم ذات أثر، فإن التحقق من وجود مشكلة عمل حقيقية وفهمها بعمق هما مفتاح تحديد ما إذا كان التدريب هو الحل المناسب أم لا، وهما أيضًا ما سيساعد في تعريف معايير النجاح.
وحتى عندما يكون التدريب حلًا مناسبًا، غالبًا ما تفتقر المؤسسات المشترية للتدريب إلى تعريف واضح للعائد على الاستثمار (Return On Investment) منذ البداية. وهذا ليس أمرًا نادرًا؛ في الواقع، نحن، مزوّدو التدريب، نادرًا ما نُبلّغ بالسبب الحقيقي لطلب التدريب أو ما هو العائد أو الأثر الذي يتوقعه المشتري.
وللأسف، الطريقة التي يتم بها عادة شراء التدريب المؤسسي تضعنا في موقف يسلبنا القدرة على سؤال المشتري عن الدافع الحقيقي لطلب للتدريب أو أن نساعد المشتري في تحديد عائد فعّال على الاستثمار. غالبًا ما تسير العملية هكذا:
يطلب قسم التدريب أو الموارد البشرية في المؤسسة المشترية كتالوجات الدورات عبر البريد أو مناقصة، وأحيانًا كثيرة على عجل.
نرسل لهم الكتالوجات، والاعتمادات، وبقية المستندات المطلوبة.
يقوم المشتري بترشيح الموظفين لحضور الدورة بناءً على ما فهمه من الكتالوجات وأحيانًا يكون الترشيح عشوائيًا.
وأحيانًا يتجاوز المشتري كل ذلك ويطلب عرض سعر لدورة رآها رائجة (ترند) على منصات التواصل الاجتماعي.
هذا إجراء معطوب 100٪ لأنه يتركنا في عتمة حول المشاكل الحقيقية التي يجب أن يساعد التدريب في حلها. بعبارة أخرى: نحن فعليًا لا نعرف ما الذي يجب أن يكون الموظفون المشاركون في الدورة قادرين على القيام به عند انتهاء الدورة.
ما يعنيه هذا على أرض الواقع هو أننا نضطر أن نقدّم للمشاركين نفس المحتوى ونفس الأنشطة التي نقدمها لغيرهم، دون أي تخصيص. وأحيانًا لا نحصل حتى على أسماء المشاركين ومسمياتهم الوظيفية إلا في اليوم الثاني أو الثالث من التدريب بسبب بطء التواصل بين الأقسام، أو تغييرات في الترشيحات في اللحظة الأخيرة، أو عقبات بيروقراطية أخرى. بالطبع يمكننا محاولة التعرف على المشاركين في اليوم الأول لمعرفة توقعاتهم، لكن غالبًا يكون الوقت قد فات لتخصيص المحتوى أو التجربة التعليمية وفقًا لاحتياجاتهم.
ولأكون واضحًا: المسؤولية هنا تقع كاملة على عاتق المشتري. فيجب أن يكون المشتري واضحًا بشأن ما يتوقعه مقابل أمواله. صحيح أن أغلب مزوّدي التدريب لا يسعون لفهم الاحتياجات العميقة ويكتفون ببيع الدورات (”تجار شنطة“)، لكن حتى أولئك الذين يسعون لأن يكونوا شركاء نجاح حقيقيين لا يمتلكون كرة سحرية لقراءة ما لم يُصرّح به من أهداف وتوقعات؛ لذلك يجب على المشتري أن يتواصل مع المزود التدريبي بكل بشفافية ليتمكن كلاهما من تحقيق نجاح مشترك.
وما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن المؤسسة المشترية للتدريب تضم أطرافًا متعددة (Stakeholders) في المبادرة التدريبية: العميل (Customer)، والمنسق (Facilitator)، والمستخدم النهائي (End-user). وغالبًا ما تكون توقعاتهم مختلفة وغير معلنة.
العميل (وقد يكون المدير التنفيذي، أو رئيس القسم، أو أي شخص أو إدارة تتكفل بتكاليف الدورة) قد يكون لديه هدف ما، لكن ما لم يكن لدينا نحن، مزوّدي التدريب، وصول مباشر إليه، فإن الهدف لا يصل إلينا بسبب عملية الشراء المعطوبة التي ناقشناها مسبقًا.
المنسق، المتمثل في قسم التدريب/الموارد البشرية، وهم على الأغلب لا يعرفون الهدف الحقيقي من التدريب أيضًا. فمن خبرتي، أنا لم ألاحظ أبدًا أنهم يناقشون معنا الأهداف على الإطلاق، بل يركّزون على الجوانب التنفيذية واللوجستية فقط (مكان الدورة، الضيافة، إلخ). أتخيل أن ما يحدث وراء الكواليس هو أنهم يتلقون طلبات التدريب على هيئة عنوان دورة أو موضوع عام دون أي توضيح للهدف الاستراتيجي. وبالتالي، فهُم يقيسون النجاح بعدد الدورات المنفذة وعدد الحضور، أو عبر استبيانات سطحية مثل: "هل كانت الدورة مفيدة لك؟ و ”هل توصي بها؟“، والذي هو نهج محدود وغير كافٍ لقياس نجاح التدريب. ومع ذلك، بطريقة ما هذا منطقي لهم لأنه إذا لم يعرفوا الهدف الحقيقي للتدريب، فلا يمكنهم التركيز إلا على ما يعرفونه ويمكنهم التحكم فيه: الحضور، والضيافة، والمواد التدريبية، والشهادات، والجوانب اللوجستية الأخرى. بمعنى آخر، يعمل قسم التدريب/الموارد البشرية كمنسق للدورة، ولا يُنظر إليه كشريك استراتيجي لنجاح الأعمال كما ينبغي أن يكون. ولكن، للأمانة، لمست في العديد أقسام التدريب الجدية والرغبة في العمل باحترافية، لكن عواملًا مثل قلة الموارد، وضعف القيادة (من ناحية وضوح الأهداف المؤسسية)، وغيرها، تضع أمامهم حاجزًا قد يستحيل اجتيازه. في أغلب الحالات، الميزانية الوحيدة التي تُمنح لقسم التدريب هي ميزانية لشراء الدورات الجاهزة فقط، أي لا توجد ميزانية للبحث والتطوير، ولا للاستثمار في التكنولوجيا التعليمية، ولا لتنمية الفريق نفسه.
المستخدم النهائي، أي المشاركون أنفسهم، غالبًا ما يكونون خارج ”الخاطوطة“ تمامًا، فلا يتم تقييم احتياجاتهم أو إشراكهم في تحديد مواصفات أو مخرجات البرنامج التدريبي، وقد يكون البرنامج غير ذي صلة بهم من الأساس، وبالتالي يغادرون التدريب دون أن يحدث فيهم أي تغيير إيجابي. هناك استثناء لهذه الحالة، وهو عندما يبادر بعض المشاركون (أي ”المستخدم النهائي“) بالبحث عن مزود التدريب بأنفسهم، وتقييم مخرجات البرنامج التدريبي، ثم يقنعون مديرهم بتغطية تكاليف البرنامج. هنا يصبح دور المؤسسة مجرد "بوابة دفع"، تمامًا كما يحدث في التدريب الموجه للأفراد (B2C).
ومن الجدير بالذكر هنا أن فجوة التوقعات تكاد لا توجد في التدريب الموجه للأفراد (B2C) لأن الشخص يختار الدورة بنفسه، ويدفع من جيبه، وبالتالي يكون حريصًا على توافق التدريب مع احتياجاته. هؤلاء الأشخاص يجمعون بين دور "العميل" و"المستخدم النهائي"، مما يسد فجوة التوقعات. وحتى المدربون الذين تعاملت معهم يؤكدون أن المشاركين في برامج B2C أكثر توافقية وتفاعلًا والتزامًا، وأن التدريب معهم كان أكثر متعة من برامج التدريبي الموجهة للمؤسسات (B2B).
والآن يدخل الفيل إلى الشات: الغياب التام لنقل التعلم (Learning transfer)؛ أي الانتقال الفعلي للتعلم من بيئة التدريب إلى مكان العمل. ففي معظم البرامج التدريبية، يقتصر ما يحدث على النقل القريب (Near transfer)، أي أن المتدربين يشاركون في دراسات حالة أو تمارين أثناء التدريب، وقد يؤدون أداءً جيدًا في ذلك السياق. لكن ما تحتاجه المؤسسات فعلاً هو النقل البعيد (Far transfer)، أي التطبيق طويل الأمد لما تعلّموه بعد انتهاء التدريب، وهذا تحقيقه أصعب بكثير.
جزء من المسؤولية يقع على عاتق مزوّد التدريب، فعلينا تصميم برامج تدريبية فعالة للكبار وعدم الاكتفاء بمجرد شرائح باوربوينت جذابة ومتحركة. المتعلمون الكبار يستفيدون أكثر عندما يستطيعون ربط المعرفة الجديدة بخبراتهم السابقة، وفهم أهميتها في العالم الحقيقي، والانخراط بنشاط عبر ممارسة عملية، وغيره من الممارسات المبنية على أسس علمية (Evidence-based).
لكن الجزء الأكبر من المسؤولية يقع، مرة أخرى، على عاتق الجهة المشترية. فبعد انتهاء التدريب، لا يستطيع مزوّد التدريب مرافقة المتعلمين إلى مكان عملهم، بل يجب أن تتوفر فرص فعلية لتطبيق ما تعلّموه. في كثير من الحالات، هذا غير ممكن بسبب قيود تنظيمية، أو تحديات قيادية، أو عمليات معطلة، أو تقنيات أو بُنى تحتية قديمة، وغيرها من العوائق التي تمنع المتعلمين من استخدام المعرفة والمهارات التي اكتسبوها.
المزيد في الجزء الثاني بعنوان: ”الـ LearnOps لإصلاح التدريب المؤسسي“.