يواجه التدريب المؤسسي في ليبيا العديد من التحديات؛ وهي ليست تحديات محلية فقط، بل إن بعضها شائع في العديد من المؤسسات حول العالم. كما استعرضتُ في مقالي السابق بعنوان ”لماذا يفشل التدريب المؤسسي في ليبيا؟“، فإن هذه التحديات تتنوع من اعتماد المؤسسات على التدريب كحل مشاكلٍ لا يُعدّ حلاً مناسبًا لها، إلى غياب تعريف واضح للعائد على الاستثمار (Return On Investment)، مرورًا بعدم وضوح وتوافق توقعات الأطراف المعنية بالتدريب، وانتهاءً بعدم وجود نقل فعّال للتعلّم من بيئة التدريب إلى مكان العمل.
معالجة هذا الواقع تتطلب إصلاحًا جذريًا، فعلى المؤسسات أن تبدأ في النظر إلى قسم التعلّم والتطوير (Learning & Development Function) كمبادرة تطوير متكاملة ومستمرة، لا كسلسلة من الأحداث المنفصلة. وهذه هي الفلسفة التي يقوم عليها إطار LearnOps.
إطار LearnOps مصمم لتحسين عمليات التعلّم (Learning operations) من البداية إلى النهاية (End to end). الإطار مستوحى من منهجية DevOps (اختصار لـ Development Operations) التي أحدثت ثورة في مجال تطوير البرمجيات والحلول الرقمية عبر الدمج (Integration)، والمواءمة (Alignment)، والتحسين المستمر (Continuous improvement). وبالمثل، يطبق إطار LearnOps هذه المبادئ ذاتها على التدريب المؤسسي.
في جوهره، يقوم إطار LearnOps على بناء نظام تكون فيه مبادرات التدريب متوائمة مع الأهداف المؤسسية، مُدارة بكفاءة، ومدعومة بالشفافية والرقابة، بهدف تحويل دور التعلّم والتطوير (المعروف تقليديًا بـ "التدريب") في المؤسسة من كونه نشاطًا مجزأ وقليل الأثر إلى وظيفة استراتيجية تُحدث قيمة ملموسة للمؤسسة.
يستند إطار LearnOps إلى مجموعة من المبادئ الأساسية، وهي:
المواءمة مع الأهداف المؤسسية: يجب ألا يكون التدريب نشاطًا معزولًا، بل يجب أن يخدم الأهداف الأوسع للمؤسسة، سواء تَمثل ذلك في تحسين الأداء في ناحية محددة وواضحة، أو تمكين التحول المؤسسي، أو دعم المبادرات الاستراتيجية.
التركيز على الأثر (Impact): النجاح لا يُقاس بعدد الدورات المنفذة أو الشهادات الممنوحة، بل يُقاس بالتغيير الملموس في الأداء، والسلوك، والنتائج. يضع إطار LearnOps الأثر (Impact) في المركز، لضمان أن يحقق كل نشاط تدريبي قيمة قابلة للقياس.
الكفاءة: يجب تبسيط عمليات التعلّم لتفادي إهدار الوقت، والجهد، والموارد. بدءًا من التخطيط، مرورًا بالتنفيذ، وصولًا إلى القياس، ينبغي إدارة كل مرحلة بما يقلل التكرار، ويُسرّع العمليات، ويحقق الاستخدام الأمثل للميزانية التدريبية.
الرقابة والشفافية: يفرض إطار LearnOps الوضوح، حيث يجب أن يتمكن أصحاب المصلحة والمعنيين في المؤسسة (Stakeholders) من رؤية كيفية تخطيط التدريب، وتنفيذه، وقياسه. هذا يعزز المساءلة ويبني الثقة في قسم التعلّم والتطوير.
القابلية للتوسع: ينبغي تصميم التعلّم لينمو مع المؤسسة. فسواء استهدفت المبادرة مجموعة صغيرة أو القوى العاملة بأكملها، يجب أن تكون الأنظمة والعمليات الداعمة لها قادرة على التوسع دون فقدان الجودة أو الأثر.
هل هذه المفاهيم جديدة أو ثورية؟ قطعًا لا، فكل هذه المبادئ معروفة منذ زمن باعتبارها سماتٍ للتعلّم والتطوير الفعّال. الجديد هو إعادة صياغتها تحت مصطلح الـ LearnOps، ليكون عدسة موحِّدة تُعيد تقديم هذه الممارسات المثبت نجاحها ويمنحها وضوحًا، وبُنية، وأهمية متجددة في السياق المؤسسي اليوم.
وبينما توفر مبادئ الـ LearnOps ”السبب“ (“why”)، تحتاج المؤسسات أيضًا إلى ”الكيفية“ (“how”)، وهنا يترجِم إطار LearnOps هذه المبادئ إلى إطار عملي يوجِّه رحلة التعلّم بالكامل، بدءًا من المواءمة مع الاستراتيجية وحتى التحسين المستمر للنتائج.
يمكن تفصيل إطار LearnOps في خمس خطوات مترابطة ومتتالية هي:
وائِم (Align): تركز الخطوة الأولى على أن تكون أهداف التعلّم مرتبطة مباشرة بهدف مؤسسي واضح، فليس كافيًا أن يُنفّذ برنامج تدريبي فقط لأن أحد المدراء طلبه؛ بل يجب أن يحل التدريب مشكلة أعمال محددة أو يدعم مبادرة استراتيجية.
خطِّط (Plan): بعد تحقيق المواءمة، تأتي مرحلة تخطيط تجربة التعلّم (Learning experience)، أي اختيار الطريقة المناسبة للتدريب، تصميم المنهج، تحديد الجمهور المستهدف، وتجهيز الموارد اللازمة. يجب أن يتضمن التخطيط أيضًا آليات دعم نقل التعلّم (Learning transfer) من بيئة التعلّم إلى بيئة العمل، سواء كان البرنامج يُبنى داخليًا مع خبراء المحتوى (SMEs) أو بالتعاون مع مزوّد تدريبي موثوق.
نفِّذ (Execute): هنا يتم تنفيذ البرنامج التدريبي. يجب أن يتجاوز التنفيذ مجرد إلقاء المحاضرات وعرض شرائح الباوربوينت، ليكون تفاعليًا، وعمليًا، ومصممًا للمتعلمين الكبار، كما وضحت في مقالي ”تصميم تجارب تعليمية فعّالة للكبار“.
قِس (Measure): بعد التنفيذ، لا بد من قياس الأثر (Impact). لا يقتصر ذلك على ملاحظات المشاركين الفورية، بل يشمل الأهم مثل قياس التغيير السلوكي، وتحسّن الأداء، والنتائج المؤسسية، وغيرها. القياس هو ما يحدد ما إذا كان التدريب قد حقق عائدًا على الاستثمار أم لا (Return On Investment).
حسِّن (Optimize): أخيرًا، يجب أن تُعاد تغذية الرؤى المستخلصة من القياس إلى النظام. في هذه المرحلة، يتم تحديث المحتوى، وتحسين أساليب التنفيذ، وتعديل الاستراتيجية، وغيرها من فرص التحسين. التحسين المستمر يجعل عمليات التعلّم دورة مستمرة، لا أحداثًا متفرقة.
معًا، تشكل هذه الخطوات الخمس عملية منهجية قابلة للتكرار لإدارة التعلّم بفعالية. لكن معرفة الإطار ليست سوى جزء من المعادلة. تحتاج المؤسسات أيضًا إلى فهم واقعها الحالي وكيفية التقدم المدروس نحو واقع أفضل، وهنا يأتي نموذج نضج العمليات التعليمية (LearnOps Maturity Model).
يتألف نموذج نضج العمليات التعليمية (LearnOps Maturity Model) من خمس مراحل تطور، كل مرحلة ترتكز على سابقتها:
تفاعلي (Reactive): في هذه المرحلة يكون التدريب عشوائيًا وغير مخطط، أي تُطلق البرامج استجابة لطلبات عشوائية وفورية، دون ارتباط واضح بالأهداف المؤسسية.
مُدار (Managed): هنا يصبح التدريب أكثر تنظيمًا، مع وجود عمليات للتخطيط والتنفيذ، لكن العائد على الاستثمار والأثر طويل الأمد لا يُقاسان بشكل ثابت.
استراتيجي (Strategic): هنا يبدأ التعلّم والتطوير بالمواءمة مع الأهداف المؤسسية، حيث تُربط المبادرات التدريبية بالأولويات المؤسسية، ويُعترف بقسم التعلّم والتطوير كشريك استراتيجي.
تنبؤي (Predictive): في هذه المرحلة تُستخدم البيانات والتحليلات (Data and Analytics) لتوقع الاحتياجات التدريبية والتنبؤ بفجوات الأداء قبل ظهورها وتصمم برامج التعلّم بشكل استباقي (Proactive).
تكيُّفي (Adaptive): هذا أعلى مستويات النضج، حيث تكون عمليات التعلّم مدمجة بالكامل مع الاستراتيجية المؤسسية، محسّنة باستمرار، وقادرة على التكيف بسرعة مع التحديات والفرص الجديدة.
يمكن استخدام هذا النموذج كأداة عملية لتقييم مستوى النضج الحالي للعمليات التعليمية (Learning Operations) في مؤسستك. يمكن إجراء هذا التقييم داخليًا من خلال فرق التعلّم والتطوير، أو عبر جهة خارجية متخصصة أو شركة استشارية لضمان موضوعية وعمق التقييم. بعد تحديد مستوى النضج الحالي، يمكن وضع خطة واضحة تتضمن مبادرات ومشروعات محددة تهدف إلى رفع مستوى النضج إلى المرحلة المستهدفة خلال فترة زمنية معينة. على سبيل المثال، الوصول إلى مستوى النضج الاستراتيجي (أي المستوى الثالث) خلال خمس سنوات. تتضمن هذه الخطة تحديد الميزانيات والموارد المطلوبة، والمسؤوليات ومؤشرات الأداء التي تساعد على متابعة التقدم. وبعد تنفيذ هذه المبادرات، يُعاد إجراء التقييم لقياس مدى التقدم ومقارنة النتائج بالحالة المرجوّة.
أنا أؤمن بأن إطار LearnOps يمتلك القدرة على معالجة التحديات الجوهرية في التدريب المؤسسي في ليبيا، لكن تطبيقه يطرح بدوره مجموعة من التحديات. وعلى الرغم من أنني لم أطبّق LearnOps في ليبيا بعد، إلا أن خبرتي المحلية في التدريب تجعلني أتنبأ ببعض العوائق التي قد تظهر، أذكر بعضها أدناه.
غالبًا ما تنظر المؤسسات إلى إدارات التدريب على أنها وحدات تشغيلية ومراكز تكلفة، لا كشركاء استراتيجيين يخلقون قيمة ملموسة للمؤسسة، وهذا يحصر تركيزهم على تقديم برامج تدريبية قصيرة المدى لسد فجوات آنية في المهارات، لا على المساهمة في صياغة الأهداف المؤسسية فيما يتعلق بتطوير القوى العاملة على المدى الطويل. هذه النظرة المحدودة تعيق مواءمة مبادرات التعلّم والتطوير مع الأهداف الأوسع للمؤسسة، والتي هي إحدى الخطوات الأساسية لتطبيق إطار LearnOps.
تطوير برامج تدريبية مخصصة داخليًا، بالتعاون مع خبراء المحتوى (SMEs)، هي ممارسة معدومة تمامًا في ليبيا, حيث تعتمد إدارات التدريب بشكل كامل على شراء الدورات والمحتوى التدريبي الجاهز. إدخال ممارسات مثل التصميم التعليمي (Instructional design) وإنتاج المحتوى (Content creation)، وإدارة المشاريع (Project Management)، وبقية القدرات الجديدة المطلوبة في قسم التعلّم والتطوير الحديث سيحتاج إلى تحولات كبيرة في العقلية وتغيير جوهري في طريقة العمل. كما ستواجه هذه الإدارات صعوبة في تبرير ميزانيات البرامج المصممة خصيصًا مقارنة بالدورات الجاهزة المعلبة من ”تجار الشنطة“.
هناك عوائق أخرى مثل محدودية الإلمام بتقنيات (تكنولوجيا) التعلّم والتطوير، وانخفاض مستوى الثقافة في البيانات والتحليلات (Data and analytics) والذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence).
لكي ينجح إطار LearnOps في هذا السياق المحلي، يجب أن تستثمر إدارة التدريب، ومعها المؤسسة كلها، في هذا التوجه الجديد، وأن تتبناه، وأن تعيد تعريف دور التعلّم باعتباره مساهمًا استراتيجيًا في تحقيق أهداف الأعمال.
ذلك قد يجعل تطبيق إطار LearnOps يبدو متناهي الصعوبة، لكن هناك نهجًا يجعل الأمر أسهل: فبدلًا من محاولة إعادة هيكلة إدارة التدريب بالكامل دفعة واحدة، يمكن للمؤسسات أن تطبق LearnOps تدريجيًا. على سبيل المثال، يمكن أن تبدأ إدارات التدريب بتطبيق إطار LearnOps على مبادرة تدريبية واحدة فقط أو مهارة أساسية واحدة، ثم تستخدم الدروس المستفادة لتحسين العملية في الخطوة التالية ثم التوسع بشكل تدريجي ومدروس. هذا النهج المرحلي للتحول يقلل من مقاومة التغيير (Resistance to change)، ويحقق إنجازات سريعة (Quick wins)، ويظهر قيمة ملموسة مبكرًا. كما يساعد أصحاب المصلحة على رؤية فوائد LearnOps دون إنهاك النظام. ومع مرور الوقت، تتراكم هذه التحسينات المتتابعة، فتنقل التعلّم تدريجيًا من كونه عملية تشغيلية بحتة إلى عملية استراتيجية، تكيفية، ومستدامة، وقابلة للتوسع.