يتعلم الكبار بطريقة مختلفة تمامًا عن الأطفال، وهذه حقيقة أساسية يجب أن يدركها كل محترف في مجال التعلّم والتطوير (Learning & Development). يُنظر إلى الأطفال غالبًا على أنهم "إسفنجات" تمتص المعرفة الجديدة بسهولة، أما الكبار فيجلبون معهم إلى بيئة التدريب نسيجًا غنيًا من المعارف السابقة، والخبرات العملية، والتجارب الحياتية، واحتياجات متنوعة وعملية. هذه ليست مجرد فروق طفيفة؛ بل عوامل جوهرية يجب أن تشكل كل جانب من جوانب تصميم وتنفيذ التدريب الموجه للكبار.
يُبرز عمل الباحث Malcolm Knowles حول الأندراغوجيا (Andragogy)، أو نظرية تعلم الكبار (Adult learning theory)، عدة خصائص رئيسية تميز المتعلمين الكبار عن الأطفال. في جوهرها، تقوم هذه النظرية على أن الكبار عادةً ما يكونون موجَهين ذاتيًا (Self-directed)، فهم يفضلون أن يتحملوا مسؤولية رحلتهم التعليمية، مدفوعين بدوافع داخلية أكثر من الضغوط الخارجية. فالمتعلمون الكبار الذي يسعون لاكتساب مهارة جديدة من أجل تطوير مسارهم المهني يكونون عادةً أكثر التزامًا من طفل يدرس فقط لتجنب العقوبة.
تشير مبادئ الأندراغوجيا إلى أن الكبار يكونون أكثر تقبلاً للتعلم عندما:
يفهمون ”السبب" (“why”): يحتاج الكبار إلى فهم أهمية ما يتعلمونه وكيف سيساعدهم في حل مشكلة، أو تحقيق هدف، أو تحسين حياتهم.
يكون التعلم عمليًا ومتمحورًا حول المشاكل: يفضل الكبار التعلم الذي له استخدام واضح ومباشر، فهم يقدّرون الأدوات والمهارات والمعرفة التي يمكنهم تطبيقها فورًا في العمل أو الحياة اليومية، بدلاً من الاكتفاء بالنظريات المجردة.
يُقدَّر ما لديهم من خبرات: يجلب الكبار معهم رصيدًا واسعًا من المعرفة والخبرة، ويكون التعلم فعالًا عندما يُبنى على هذا الأساس، ويربط المفاهيم الجديدة بما يعرفونه مسبقًا.
يكونون مستعدين للتعلم: تنبع الجاهزية للتعلم غالبًا من حاجة محددة، أو انتقال في الحياة، أو رغبة في تجاوز عقبة معينة.
يمتلكون قدراً كافيًا من الاستقلالية (Autonomy): إشراك الكبار في تخطيط تعلمهم والسماح لهم بالتقدم وفق وتيرتهم الخاصة يعزز مشاركتهم والتزامهم.
توضح مبادئ الأندراغوجيا، خصوصًا مبدأ التوجيه الذاتي والحاجة إلى الصلة بالواقع، أن الأهداف تمثل عاملًا حاسمًا في تعليم الكبار. فبالنسبة للكبار، لا يعد التعلم مجرد نشاط، بل وسيلة لتحقيق غاية معينة. سواء كان الهدف إتقان سوفتوير جديد أو تطوير مهارات القيادة أو التواصل، فإن وجود هدف واضح يشكل الوقود الأساسي للمثابرة والدافعية.
وفي بيئة العمل خصوصًا، يجب أن يتماشى التدريب مع طموحات الموظف المهنية الشخصية أو مع الأهداف الاستراتيجية العامة للمؤسسة، فعندما يستطيع المتعلمون الربط بوضوح بين محتوى التدريب وأهدافهم الشخصية أو المهنية، يزداد تفاعلهم بشكل كبير.
نظرًا لأن المتعلمين الكبار بطبيعتهم موجهون ذاتيًا وموجهون نحو الأهداف، فإن النموذج التقليدي القائم على المعلّم أو المدرّب (Instructor-centric model) غالبًا ما يفشل في تلبية احتياجاتهم. وللاستفادة حقًا من دافعية الكبار وتعزيز التعلم ذي المعنى، يجب إجراء تحول جذري في النهج التعليمي.
في التدريب التقليدي، يكون المعلّم في المركز، بوصفه المصدر الوحيد للمعرفة. أما مبادئ تعلم الكبار فتدعو إلى التحول نحو نموذج متمحور حول المتعلم (Learner-centric model)، حيث يقوم المتعلمون ببناء فهمهم بأنفسهم، بينما يتم توفير التوجيه والدعم من خلال التيسير من طرف المعلّم، وتصميم الدورة، والعناصر التفاعلية، وغيرها من الأساليب والأدوات التعليمية. يعزز هذا النهج لدى المتعلمين مهارات التعاون، والتفكير النقدي، والإحساس القوي بملكية عملية التعلم، مما يؤدي إلى نتائج أعمق وأكثر استدامة.
رغم أن نظرية تعلم الكبار تحظى بقبول واسع، إلا أنها تواجه انتقادات مهمة. أبرز هذه الانتقادات:
افتقارها إلى الصرامة العلمية، إذ يصعب قياس مبادئها أو التحقق منها تجريبيًا، مما يجعلها تعتمد بشكل مفرط على الأدلة القصصية (Anectodal Evidence) بدلاً من البيانات الحقيقية.
كما تفترض النظرية أن جميع الكبار متعلمون ذاتيو التوجيه وذوو دوافع داخلية، وهو افتراض لا ينطبق على الجميع، لأن بعض الكبار لازالوا يعتمدون على التوجيه، بينما يُظهر بعض الأطفال قدرة على التعلم الذاتي.
وتم انتقاد الأندراغوجيا بسبب تحيزها الثقافي، إذ تعكس قيم الذكور البيض من الطبقة الوسطى في المجتمعات الغربية، وتتجاهل المتعلمين من خلفيات ثقافية مختلفة، بما في ذلك أولئك الذين يقدّرون سلطة المعلّم أو التعلم الجماعي.
ورغم هذه الانتقادات، أنا أرى أن الأندراغوجيا لا تزال تقدم نقطة انطلاق مفيدة. فكر فيها ليس كإطار مكتمل، بل كأساس يمكن البناء عليه. ومن خلال الاعتراف بحدودها مع الاستفادة من نقاط قوتها الجوهرية، يمكننا الانتقال من النظرية إلى التطبيق.
المعيار الحقيقي للتعلم الفعال عند الكبار هو أثره المستدام. فالنجاح الحقيقي لا يتمثل في إكمال دورة تدريبية أو الحصول على شهادة، بل في الاحتفاظ بالمعلومات على المدى الطويل (Long-term retention)، والنقل الناجح للمعرفة والمهارات إلى مواقف جديدة في الحياة الواقعية (Learning transfer).
ولتحقيق ذلك، يجب أن نتجاوز الأساليب القديمة في التعليم، ونتبنى استراتيجيات جديدة. فيما يلي مجموعة من الاستراتيجيات التعليمية المستندة إلى الأدلة العلمية (Evidence-based) التي تساعد على تحسين تجارب التعلم للكبار، انتقيتها لكم بعناية بالغة بعد ما يفوق سنة كاملة من البحث والتدقيق (ملاحظة: قد يبدو بعضها متداخلًا، لكن هناك فروقًا بينها لا يسعنا المجال لنقاشه):
إدخال عنصر الجِدة (Novelty): أضف إلى برنامجك التدريبي عناصرًا جديدة أو غير متوقعة لإثارة الفضول المستمر والحفاظ على الانتباه.
التقدم وفق الوتيرة الذاتية (Self-paced progress): اسمح للمتعلمين بالتقدم في المنهج وفق سرعتهم الخاصة، والذي هو ركيزة أساسية من ركائز التعلم ذاتي التوجيه (Self-directed learning).
التعلم المصغّر (Micro-learning): قسّم المحتوى إلى دروس قصيرة وسهلة "الهضم"، بحيث يمكن أن تكون هذه الدروس مستقلة أو تعمل كجزء من مسار تعليمي متكامل (Learning path).
المشاركة النشطة (Active participation): تجنب التعلم السلبي (Passive learning) بإضافة أنشطة تتطلب المشاركة الفعالة، وحل المشكلات، والمناقشة الجماعية.
التعلم القائم على السيناريوهات (Scenario-based learning): استخدم مواقف وسيناريوهات واقعية وتطبيقات عملية لربط النظرية بالممارسة.
مسارات تعلم مخصصة (Personalized learning paths): صمّم مسارات تعليمية تتكيف مع أهداف كل فرد لجعل التجربة أكثر صلة وكفاءة.
التدريب التفاعلي (Interactive training): استخدم أنشطة ديناميكية مثل المحاكاة (Simulation) والسيناريوهات المتفرعة (Branched scenarios) التي تتفاعل مع مدخلات المتعلم.
التكرار المتباعد (Spaced repetition): أعِد عرض المعلومات بشكل استراتيجي بمرور الوقت لتثبيت الذاكرة.
الاستدعاء المؤجل (Delayed recall) وتمارين الاسترجاع (Retrieval practices): شجع المتعلمين على استدعاء المعلومات دون مساعدة أو تلميحات.
التمارين منخفضة المخاطر (Low-stakes practices): وفر بيئات آمنة للممارسة والتجريب دون الخوف من الفشل.
الاختبارات الختامية (Exit quizzes): استخدم تقييمات في نهاية الوحدات لتقييم الفهم وتقديم تغذية راجعة فورية.
حلقات التغذية الراجعة (Feedback loops): قدِّم ملاحظات فورية وقابلة للتنفيذ لتحسين الأداء المستمر.
تمارين التأمل الذاتي (Self-reflection practices): حفّز المتعلمين على تقييم نموهم وفهمهم.
تتبع التقدم بوضوح (Clear progress tracking): عرض مؤشرات التقدم والإنجاز لتعزيز الشعور بالتحفيز والإنجاز.
التلعيب (Gamification): أضف عناصر مثل الشارات (Badges)، والنقاط، والمكافآت للحفاظ على الحماس.
الدعم المجتمعي (Community support): شجع التفاعل وتبادل الدعم بين المتعلمين.
التعلم الاجتماعي (Social learning): حفّز التعاون من خلال المنتديات (Forums), والمشاريع الجماعية، واللقاءات عبر الإنترنت (Online meetups).
ولا ننسى الأهم، لكي تحقق هذه الاستراتيجيات نتائجًا حقيقية، يجب على المتعلمين تطبيق ما تعلموه في حياتهم الواقعية. فمن خلال الاستخدام النشط، سواء في الحياة الشخصية أو المهنية، يظهر الأثر الحقيقي للتعلم.
استنادًا إلى مبادئ تعلم الكبار واستراتيجيات تحقيق الأثر المستدام، يظهر التعليم الإلكتروني (E-learning) كأحد أكثر الأساليب ملاءمة لتقديم تعليم فعال للكبار في العصر الحديث، فمرونته الجوهرية، التي تسمح بالتعلم في أي وقت ومن أي مكان، تتناسب تمامًا مع حياة الكبار المزدحمة بين العمل والأسرة والالتزامات الأخرى.
تتفوق منصات التعليم الإلكتروني في تقديم مسارات تعلم شخصية، تمكّن الكبار من التركيز على المحتوى الأكثر ارتباطًا بأهدافهم الخاصة. كما أن الذاتي الإيقاع الذاتي للدورات عبر الإنترنت يحترم رغبة المتعلمين الكبار في الاستقلالية، مما يجعلها وسيلة فعالة، إذا تم تصميمها بشكل صحيح.
ورغم أن التعليم الإلكتروني يقدم مزايا هائلة، لكنه ليس خاليًا من التحديات، فقد يجعل بعض المتعلمين يشعرون بالعزلة، كما يتطلب هذا النوع من التعلم قدرًا عاليًا من الانضباط الذاتي (Self-discipline). وقد تشكل التحديات التقنية أو تفاوت مهارات التعامل مع التكنولوجيا عوائقًا إضافية. ولكن، معالجة هذه التحديات ممكن من خلال التصميم المدروس.
على سبيل المثال:
لمواجهة العزلة: أدمج فرص التعلم الاجتماعي مثل المنتديات، والمشاريع التعاونية، واللقاءات المباشرة عبر الإنترنت.
لتعزيز الانضباط الذاتي: ساعد المتعلمين على وضع أهداف واضحة وقابلة للتحقيق، وقدم أدوات فعالة لتتبع التقدم.
معالجة العوائق التقنية: اجعل المنصة سهلة الاستخدام، وقدم تعليمات واضحة، ووفّر دعمًا فنيًا جيدًا.
من خلال الفهم العميق لكيفية تعلم الكبار، وتصميم تجارب تعليمية موجهة نحو الأهداف ومتمحورة حول المتعلم، يمكن لمحترفي التعلم والتطوير تصميم وتنفيذ برامج تدريبية ذات أثر دائم تؤدي إلى معرفة راسخة، وتطوير مهارات حقيقية، ونتائج ملموسة. وعندما يُصمم التعليم الإلكتروني وفق هذه المبادئ، فإنه يصبح حلاً قويًا وفعالًا لتلبية الاحتياجات المتطورة للمتعلمين الكبار في العصر الرقمي.